Posted by: tarbeyawatakwin | ديسمبر 11, 2013

الثورة العلمية في التربية واللغات هي الحل


لقد كثر الجدل والنقاش في الساحة المغربية حول عدد من القضايا السياسية الحيوية وحظي التعليم واللغات بنصيب من هذا الاهتمام لا يستهان به، وكالعادة ساهمت أقلام كثيرة في إثراء هذا النقاش وتعقيده ويشكر الجميع على النوايا الحسنة والاجتهاد في timthumb.phpايجاد الحلول لمشكل، أعتبره بكل تواضع، لم يتم تحديده بعقلانية صارمة ولم يخضع لسيف المنهجية العلمية الحديثة. المساهمون في النقاش يوثرون آراءهم ويميلون إلى فرضها دون اخضاعها للمحك العلمي والمهني من قبل المتخصصين، بل لقد ذهب البعض إلى ضرب عرض الحائط بمؤسسات دولية لما تحمله في نظرهم من أحكام مسبقة للتمسك بمعتقدات أكل عليها الدهر وشرب.

آمل في هذه العجالة من المهتمين بالشئون التربوية واللغوية ألا يتسرعوا في الحكم على نجاعة مقترحاتهم وحلولهم المسبقة (بما فيها المطروحة حاليا) لمعضلة هاذين المتغيرين المحوريين المتعلقين أساسا بالكيان الانساني الذي نسميه المجتمع المغربي. ولا بد من الدقة في الإشارة إلى الآليات القانونية والمفاهيم المنظمة لحيات المواطنين والمواطنات. الرغبة الشخصية والميولات نحو سياسة معينة نابعة من معتقد أيديولوجي معين تقود حتما إلى سوء فهم ما يصلح للمجتمع وتحول دون تكوين صورة واضحة لكل العناصر الحيوية التي لابد من اعتبارها للتغلب على التحديات الكبيرة والعميقة التي يواجهها بناء الكيان المغربي الديمقراطي الحديث الذي تسود فيه المساواة والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان.

 فمثلا، الدستور المغربي لم يحدد الفصحى كلغة رسمية، فقد ورد في الفصل الخامس منه: “تظل العربية اللغة الرسمية للدولة”. لم يورد المشرع كلمة اللغة قبل ذكر العربية ولم ترد كلمة الفصحى في النص، فإذا تحاكم الدكتور ناجي المعروف باهتماماته اللغوية والدكتور العروي المفكر المشهور وكل من يناهض التعلم بالدارجة مع مناصري الدارجة إلى الدستور، فستكون الغلبة لسلطة الدستور، ومن الصعوبة بما كان أن يقتنع أي فقيه في القانون الدستوري، ناهيك عن اقناع آخرين، بأن نية المدون هي الفصحى. الدارجة المغربية عند جميع الناس عربية بتحويراتها وتأثيراتها وتطويعها من قبل شريحة كبيرة من المغاربة، ولما اعتبرت لغة قومية، فما هي المبررات المقنعة المبنية على بيانات علمية التي تمنع من التمدرس بها،مثلا؟ ما هو الهدف الحقيقي للتربية المنشودة؟ أهو تعليم اللغة أم وظيفيتها؟ لقد ورد في مقال للدكتور ناجي حول تعدد اللغات والثقافات بأن:

السلطة هي التي تحدد ليس فقط اللغات التي تصبح رسمية أو وطنية أو إقليمية أو التي تدخل مجال التعليم ، ولكنها تحدد أيضا أين وكيف سيتم إدراجها كوسيلة للتدريس أو كمادة في البرامج الدراسية.

أين المواطنون والمواطنات من هذه العملية؟ سلطة من هي المقصودة؟ وما الموقف من نتائج الأبحاث التي أثبتت جدارة اللغة الأم؟ وإن كان الاعتراف بالتمدرس بالأمازيغية في المغرب ضمن الحقوق المكفولة بالدستور للذين رضعوها كلغة الأم، فما سيكون ذنب الذين رضعوا الدارجة حتى يتفصحوا مثلا؟ والذين رضعوا الإثنتين معا؟ ما العمل؟ إن تكوين الانسان المغربي المتحضر العاقل عملية في غاية التعقيد ولا يفيد فيها إلا الجد والمنهجية العلمية والمهنية. لقد ذكرت بعض الأفكار بهذا الخصوص في مقالتي “اعادة الزيارة الى هموم التربية” نشرت على هذا الموقع المحترم لمن يرغب الرجوع اليها. وليسمح لي  القراء الكرام للتذكير ببعض المقترحات التي تقدمت بها  مضيفا بعض ما لعله ينفع في استيعاب مدى ضخامة وجلل الإجراءات الضرورية لإصلاح التعليم الذي يتطلب ثورة علمية حقيقية والتخلي عن عقلية الشعوذة والاستخفاف بعقول المواطنين والمواطنات وذوي الاختصاص. العمل الجبار المنتظر يتطلب بحارا من العلوم للقيام به لأن ‘بحر الدموع للفقيه ‘أوزال’ لا تشفي الغليل في مثل هكذا شأن حيوي مصيري

وقد يكون من المفيد في بداية فهم إشكالية التربية في بلدنا الغالي والغني اعتبار ما يلي:

أولا، وقبل كل شيء لابد من الاعتراف بأن ثمار العملية التربوية تأخذ وقتا طويلا للنضج والقطف  والاستفادة، فلا بد من طول البال والعملية على كل حال مستمرة باستمرار الحيات إلى ما لا نهاية. ولا بد من إدراك تعقيد وتشعب العناصر الأساسية للعملية التربوية المتمثلة في: الطفل والمعلم والمناهج والإدارة والتمويل. وقد أنشأت الدول المتقدمة والجادة معاهد علمية وكليات لدراسة هذه العناصر وكل ما من شأنه أن يٍؤثر علي العملية التربوية في مجتمعاتها، إن سلبا أو إيجابا.

ثانيا، إنشاء بنك للمقترحات والأفكار التي يتقدم بها المهتمون بالشأن التربوي ويضاف إليها كل ما قد يتفضل به العامة والخاصة من اقتراحات وأفكار عندما يفتح باب البنك لاستقبالها.

ثالثا، إبعاد الأحزاب السياسية من العملية التربوية برمتها وتكون المسؤولية بيد المجتمع ككل يديرها المتخصصون والمهنيون الذين يكون ولاؤهم لمصلحة وتقدم كل المغاربة وتطوير الصناعة التربوية بغض النظر عن انتماءاتهم العقائدية واللغوية والجنسية، أي مساواة الجميع ومساواة الفرص ليس إلا.

رابعا، مبدأ استقلالية كل جهة في جميع شؤونها التربوية كما كان عليه الحال في قديم الزمان والتباع مبدأ “الدرهم يتبع الطالب” بحيث تكون الفرص متكافئة لكل أولاد وبنات المغاربة جميعا. الحساب في كل شيء بحيث تكون تكلفة ما يصرف على الطالب في الرباط ومكناس وطنجة وفكيك والخمسيات وتزنيت والعيون وطاطا وأكادير وإداوتنان وإداومنو وتنغير والراشدية هي نفس التكلفة، ولا يبقى عذر لأحد للتمييز بين أبناء وبنات بلدنا الذي يدعي كل واحد منا أنه يحبه.

خامسا، وضع آلية لانتخاب مديري الأكاديميات من قبل ساكنة الجهوية الموسعة وتكون المنافسة بين المتخصصين والمهنيين الذين يقدمون برامج عملهم ويختارون طاقم عملهم لانجازها. الديمقراطية التشاركية والممارسة الفعلية لها على أرض الواقع قد تنفع في توزيع المسئوليات. وإن كان لابد من وزارة ووزارتان فتكون مهماتها، تحت إشراف المجلس الأعلى للتعليم، جمع الإحصائيات وتمويل الأبحاث والمشاريع التربوية التي تتقدم بها الجهات والمجلس الأعلى للتعليم، وتقوم بنشر وحفظ الموروث الثقافي والعلمي بدل أن تقتل الإبداع وتعقد العملية التربوية وتسيطر على الصغيرة والكبيرة مع معاناتها من نقص الكفاءات، والمهنية، والاخىلاص والتفاني في خدمة مصالح المغاربة جميعا.

نستبشر خيرا بقدوم تقنوقراطي على رأس وزارة التعليم الوطني ونتمنى، كما تقتضيه المصلحة العامة في نظري، أن تلتحق وزارة العليم العالي بالركب ويتولى تسيير شؤونها المتخصصون في التعليم العالي والمعروفون بانتماءاتهم للأوساط العلمية بدل الاوساط العقائدية والفوقية. إن الخبرة في التدريس الجامعي لمادة معينة بدون تأهيل مهني في العلوم الإدارية والتربوية، ليست كافية للقيام بمهام جليلة ومعقدة داخل الهياكل الإدارية مثل تسيير المؤسسات التعليمية بشتى أنواعها وشتى مستوياتها وخصوصا التعليم العالي والبحث العلمي. الموقف يستدعي استحضار الحكم التي يعبر عنها :” فاقد الشيء لا يعطيه” و”على قدر أهل العزم تأتي العزائم”.

سادسا، الاهتمام الفوري والملح بتربية المدرسين والإداريين وتكوينهم المهني ضمن المعايير العالمية العالية نظرا لخطورة وحيوية هذه المهن على العملية التربوية والتعليمية برمتها، خصوصا مستوى أداء المتعلمين وتحصيلهم الدراسي. ولتأكيد هذه الحقيقة فلقد أثبتت جميع الدراسات العلمية بأن جودة التدريس تؤثر تأثيرا بالغا في التحصيل الدراسي لدى المتعلمين، بل كشفت نتائج البرنامج العالمي لتقييم المتعلمين من فئة 15 سنة التي تقوم بها ‘منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية’ كل ثلاث سنوات أن العنصر الأساسي المؤثر على الأداء والتحصيل لدى هذه الفئة من الشباب العالمي (65 دولة) في المعارف والمهارات المختلفة (في الرياضيات والقراءة والعلوم) هو جودة التدريس، إذ وجد بأن المدرس هو المتغير الوحيد الذي فسر الفروقات في الأداء العالي للمتعلمين وأدائهم المنخفض في بنود التقييم.

وتتميز الأنظمة التربوية التي تجاوز أداء  وتحصيل المتعلمين فيها بقية الأنظمة التربوية بصفات تعكسها الأنظمة المتفوقة والتي تحتل فيها الدول الأسيوية الصدارة حيث أن هذه الدول “تشدد تشديدا قويا على عملية اختيار وتدريب المدرسين وتشجيعهم على العمل الجماعي من أجل تبني أولوية الاستثمار في نوعية المدرس …”٭، كما تتميز هذه الأنظمة العالية الأداء “بوضع أهداف واضحة وتمنح المدرس الاستقلالية في القسم لتحقيقها.”٭

سابعا، يشرف رئيس الدولة الذي يرأس المجلس الأعلى للتعليم خلية علمية يكون من بين أعضائها المتخصصون في العلوم التربوية والمثقفون والخيرين والخيرات من مغاربة الداخل والخارج، ويشرف هذا المجلس على بنك المقترحات التي يتفضل بها المواطنون والمهتمون بالشؤون التربوية وذوي الاختصاص، ويقوم بتنظيم العمليات اللازمة لتحليلها ونشر الدراسات والأبحاث لفائدة تحسين أداء وجودة تحصيل الفاعلين في ميدان الصناعة التربوية، وخصوصا المتغيرين الأساسيين المتعلم والمدرس.

وفي الأخير لا يمكن التأكد من سلامة ونجاعة أي اقتراح لتنمية العملية التربوية والخروج من دوامة أزمة تدهور التعليم في بلدنا إلا إذا قمنا باختبار ذلك المقرح ميدانيا كفرضية علمية وكمتغير مستقل للنظر في تأثيره على الأداء ومعالجة الأزمة التعليمية التي تعتبر في هذه الحالة المتغير التابع. التعريب والتدريس بالفرنسية أو الانجليزية أو الامازيغية، (الخارجة عن معيارية المعهد الذي يبخل عن تمويل الأبحاث العلمية بالرغم من وجود الملايين في ذمته تكرم بها وردها إلى الذين دبروا صرفها لتحقيق أهداف أخرى وضاع بذلك تمويل البحث العلمي في الثقافة الامازيغية) بالنسبة للمتخصص تستدعي الاختبار كفرضيات علمية، أما الميولات الشخصية في الأمور العلمية فلا تأخذ في عين الاعتبار إلا كما هي، لا بد من اختبارها علميا لإثبات فائدتها أو نفيها.

 أما وإن كان لا بد من التصريح بلغتي المفضلة في التدريس فهي بدون تردد اللغة الإنجليزية (وذلك لاعتبارات كثيرة يعترف بها القاصي والداني، حتى بعض شيوخنا) ولا يجحدها إلا  الأعمى، ومنها نفض عقدة الاستعلاء الفرنسي علينا في الوقت الذي يقوم فيه بتوفير عدد من الدرجات العلمية في المعاهد والجامعات الفرنسية باللغة الإنجليزية الخ. (أتساءل كيف ستكون ردة فعل بعضنا لو تقدم أحد منا بمثل ذلك المقترح في المؤسسات المغربية؟) ولو كان اقتراحي سيغني من شيء، فسيبدأ المغاربة بتعليم أولادهم وبناتهم اللغة الإنجليزية في الأقسام الابتدائية (مشروع وجيه يتطلب عملا جادا ووقتا لبنائه)، هذا لا يعني أبدا التقليل من شأن الفصحى  واللغة الفرنسية أو اللغات الأخرى التي يرغب المغاربة في تعلمها سواء كان القصد توظيفها أو فقط للمتعة والثقافة والتواصل مع الناطقين بها. أليس هذا الحق مكفولا في دستور المغرب؟ ومن ينكر جمال اللغات وابداعاتها وشطارة المتمكنين منها وحسرة من لا توافقه الظروف للتمكن من بعضها؟

 وزيادة عن هذا، أليس من بين أهداف التربية والتعليم في بلدي الغالي والغني، وفي جميع أنحاء العالم، تلبية وإشباع حاجيات ورغبات الناشئة التعليمية والعلمية ومتطلبات التنمية المستدامة؟ فهل سيستجيب ذوي الصلاحيات للمبادرة باتخاذ القرارات بتنفيذ المطالب الإصلاحية التي تدق أجراس الإنذار منذ زمن بعيد، أم أن حلاوة الرضاع من خيرات المناصب ودفئ الكراسي والرواتب السخية وعدم الخضوع للمحاسبة القانونية تعمي الأبصار وتحول دون القيام بالواجب؟

إن الخوف على فقدان المصالح الأنانية لا مبرر له أبدا، لأن مصلحة المغاربة العليا تضمن مصالح الجميع بما في ذلك مصلحة “إبا مامسة” ومصالح الخائفين من ضياعها. اللغة العربية بخير ولا يمكن إلا أن تكون رصيدا إيجابيا وإضافة قيمة للثقافة الإنسانية، العالم العربي كله مجند لخدمة لغته والدستور في المغرب يعتبرها لغة رسمية، فأين يرد الخوف عليها؟ أمِمّن أتحفهم أجروم بإبداعه في تنظيم نضم قواعدها ونحوها؟ ليبحث من يهمه الأمر عن مصدر الخوف الحقيقي على العربية. لقد بحثت عنه في المغرب فلم أعثر عليه بالرغم من الاتهامات المتبادلة بين الذين لايعترفون بحقوق الآخرين.

الخير الوفير الذي تنعم به بلادنا قد يعم الجميع لو استعد الجميع لاحترام الجميع والاقتناع بالاعتراف بحقوق الجميع بدون استثاء. حتى “إبا مامسة” التي سيحتاج الكثيرون من أمثال الاستاذين عيوش والعروي إلى من يترجم لهم وجهة نظرها حول القضايا المصيرية المغربية في اللغة وفي التربية والتعليم التي حرمتها منها كما حرمت الملايين غيرها، سياسة جهابذة الأحزاب السياسة التي تدعي الوطنية وتخبطت وما زالت تخبط في شأن حيوي مصيري يهم كل المغاربة. أليست هذه كارثة إنسانية بكل المقاييس؟ ألا تستدعي ثورة وانتفاضة علمية للقضاء على الجهل ورد الاعتبار لحقوق الإنسان المغربي واتباع سياسة تنموية رشيدة في جميع المجالات لا تستثني أحدا ولا تقصيه؟

من باب الخير الوفير في بلدنا الغالي والغني وجود الأوقاف الغنية التي قد تساهم في تمويل قسط كبير من العمليات التربوية لو كانت إدارتها  فعالة وذات تطلعات واسعة الأفق (تميز جامعة هارفارد العلمي من قيمة وجودة إدارة أوقافها). علاوة على هذا، فالتكلفة لموازنة الدولة وجيوب دافعي الضرائب معدومة.

أختتم هذه السطور بما تعتقد منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أنه مفيد للأنظمة التربوية حيث إن نتائج برنامجها الدولي لتقييم المتعلمين “كشف حقيقة ما هو ممكن في الميدان التربوي وذلك بإبراز ما يمكن أن يقوم به المتعلمون في كنف الأنظمة التربوية المتميزة بالأداء الأعلى وبسرعة التحسن الفائقة، وتساعد كذلك مقرري السياسة في العالم على مقياس معرفة ومهارات المتعلمين في بلدانهم ومقارنتها مع المتعلمين في البلدان الأخرى. وتسمح بوضع سياسة الأهداف في مقابلة أهداف محسوبة تم تحقيقها في الأنظمة التربوية الأخرى، والتعلم من السياسات والتطبيقات الجاري بها العمل في الأماكن الأخرى”.٭ ألم يتجلى بأن نفض غبار الجهل والقيام بثورة علمية في التربية واللغات هو الحل؟

الدكتور عبد الغاني بوشوار باحث وأستاذ العلوم الاجتماعية-اكادير: bouchouar@gmail.com

أنبه القراء الكرام أن يدركوا أنني لا اخاطب إلا من يؤمن بالحق في الاختلاف بناءا على العقلانية والمروءة.أكادير – MWN عربية

٭راجع موقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للمزيد من المعلومات. تشير البيانات الواردة في الدراسة أن المدرسين في الأنظمة التعليمية المتفوقة يتقاضون رواتب جد محترمة.


أضف تعليق

التصنيفات